قصة الشطرنج
تحكي الأسطورة أنه كان في بلاد الفُرس ملك مهيب
وكانت للملك أسرة يحبها كثيرًا، تتكون من زوجة جميلة
تُدعَى «براندخت »، وطفل صغير يُدعَى «جيف »، وأخ يُعينه على مهام
الحُكم يُدعَى «ماي .»
كان الملك شغوفًا بالصيد، وفي رحلة من رحلاته خارج المملكة وقع الملك
من على فرسه ولم يستطع الجنود أن يُسعفوه فمات من فوره، ورغم حالة الحزن والحداد التي عمَّت البلاد إلا أن قوانين المملكة دفعت بالأخ على كرسي السُّلطة والذي رأى أن يتزوج من أرملة أخيه وفاءً له وإكرمًا لها.
وفع تم الزواج، وبعد عام أنجبت الملكة أخًا لطفلها الأول وأسمته «تالند »
كان الملك «ماي » كأخيه محبا لشعبه، وكان يجزل لهم في العطايا، مما جعل المملكة تدعو لملكها الراحل وتستبشر خيرًا بملكها الحالي.
لكن الرياح كعادتها أتت بما لا تشتهي السُّفن، فقد مات الملك «ماي »
وترك المملكة كي تُديرها أرملته ومعها طفلاها الصغيران «جيف » و «تالند » حزنت المملكة كثيرًا، لكن الأمور لا تقف حزنًا على أحد، واستطاعت الملكة أن تنحِّي حزنها جانبًا وتدير أمور المملكة على خير ما يُرام...
بيد أن سؤالًا ظهر على السطح بقوة، وشغل بال المملكة
كلها، تُرى مَن مِن الأبناء سيكون وريثًا للعرش!
ذهب البعض إلى أن «جيف » هو الأحق لأنه الأكبر سنًّا
بينما ذهب البعض الآخر إلى أن «تالند » هو الأحق حيث إنه
ابن آخر الملوك وهو الأحق بالمُلك.
كانت الملكة «براندخت » تُدرك أن الاختيار صعب، وأن عليها وحدها عبء
فض هذا الإشكال، لكنها أرجأت البتَّ فيه إلى حين، فما دام الأبناء صغارًا فلا
داعي لنصنع ما يمكن أن يفرِّق بينهما أو يوغر الصدور، هكذا رأت الملكة.
ومرَّت الأيام سريعًا، كبر الولدان، وصار لكل واحد منهما أصدقاء وندماء
وأتباع، وصار أتباع كل واحد منهما يغذون لدى حليفهم أنه الأحق بالمُلك من أخيه، ولا يجب أن يتزحزح عن ذلك أبدًا.
في ذلك الوقت رأى حكماء ووزراء المملكة أنه يتوجَّب
على الملكة أن تحدِّد من هو الملك من بين ولديها، لكن الملكة
التي طالما أدهشتهم بقوتها لم تستطع أن تأخذ قرارًا كهذا، بدت
وكأن مشاعر الأمومة لديها باتت أقوى من أي شيء آخر...
وأمام هذا التخبُّط والتشويش في الرؤية انقسمت القوى والموازين إلى
قسمين، بل انقسم الجيش نفسه إلى مؤيد «لجيف » يأتمر بأمره، وآخر يتبع «تالند » ويُقسم له بالولاء.
وبدت في الأفق بوادر حرب أهلية دامية، وصارت المواجهة مسألة وقت.
وفعلا تحققت أسوأ كوابيس المملكة، «جيف » و «تالند » قررا أن يتواجها
لحسم مسألة العرش.
كانت لدى كلٍّ منهما قوة مُساوية لقوة الآخر، أعداد الجنود متقاربة، وكذلك الخيول، وأيضًا الفيلة والتي كانت تحمل الأبراج التي ترمى من عاليها السهام المشتعلة.
وتحرك الجيشان، دارت رحى الحرب لتحصد من الجنود الشيء الكثير
وهنا ظهر أمر غريب، لم يُرد أيٌّ من الأخوين أن يقتل أخاه، لقد أمر كل واحد منهما قوَّاده أن يصرخوا عندما يقتربوا من موضع الأخ الآخر وأن ينبهوه قائلين «احترس »، فيقوم الأخ المُحاصَر بتغطية نفسه والاحتماء منهم!
ظهر جليًّا أن الطمع لم يقطع كل حبال الأخوة، وأن هناك ثمة خيطًا رفيعًا
يُمكن أن يُنهي هذا العبث.
كانت الغلبة لجنود «جيف » والذين حاصروا «تالند » بشكل حاسم، وقبل أن يرسل «جيف » إلى أخيه يطالبه بالاستسلام، كان «تالند » يدور كالمجنون محاو إيجاد ثغرة ينفُذ منها.
وعندما دخل عليه جنود أخيه وجدوه جثة هامدة، ولم يعرفوا هل مات كمدًا
وفجيعةً أم أنه أنهى حياته بيديه.
كانت الأم في ذلك الوقت تُراقب ما يجري من فوق تبة عالية وقلبها يذرف في لوعة، كانت تعلم جيدًا أنها ستخسر أحد أبنائها في تلك الفتنة، لقد تشتت هواها بين الاثنين، وحينما جاءها خبر تالند، سقطت من فورها مغشيًّا عليها.
وعندما أفاقت وجدت أمامها «جيف » مُلتاعًا، فصرخت فيه قائلةً: كيف
حملك ضميرك على قتل أخيك؟
فنظر لها وقد كست الدموع وجهه قائلا لم أقتله، ما كان لي أن أفعل، ولا
حتى أحد من جيشي، صدقيني ما كنت لأقتل «تالند » أخي.
بدا على الأم أنها غير مُصدقة، فوعدها «جيف » أنه سيُثبت لها!
كان حزن «جيف » على موت أخيه كبيرًا، فبرغم التنافس الدامي بينهما إلا
أنه لم يستطع أن ينسى أن «تالند » هو أخوه الوحيد، وشريكه في كل اللحظات الجميلة التي مرَّت به في حياته، المشكلة الآن أنه صار مُحمَّلا بعبء تبرئة نفسه من قتل أخيه أمام أمه.
فكَّر «جيف » طويلا قبل أن يهتدي إلى فكرة يمكنه أن يشرح من خلالها للأم كيف مات «تالند » وحده.
أرسل «جيف » للنجار أن يصنع له رقعةً كبيرةً، ثم يضع فوقها أشكالا مختلفة تمثِّل الجنود، والفيلة، والأحصنة، وكذلك الملك، كانت أوامره أن يصنع أشكالا متساوية بلونين مختلفين، وبالفعل صنع له النجار
ما طلب، فوضعهما «جيف » متقابلين، ثم نادى على أمه وبدأ في شرح المعركة لها.
أبان لها كيف تحرَّكت العساكر، وتصادمت القوى، وقفزت الخيول، وتطايرت
السِّهام من فوق الفيلة الهائجة.
أكد لها أنه وجيشه كانا دائما يحذِّران «تالند » إذا ما كان هناك ثمة خطر ما
يهدده!
وفي الأخير شرح لها كيف تمت محاصرة «تالند » حتى وجدوه ميتًا دون أن
يمسَّه أحد.
استمعت الملكة لشرح «جيف » وهي صامتة إلى أن أنهى كلامه دون أن
تُعقِّب، ثم أمرت أن تحمل الرقعة بقطعها إلى غرفتها.
ظلَّت الملكة تتأمَّل القطع الخشبية كثيرًا، وهي تحاول أن تفتح ثغرة كي تُنقذ
«تالند »، كانت تسأل نفسها كثيرًا: «هل كان يجب أن ينتهي الأمر بمقتل أحد ولديها؟ ألم يكن ممكنًا أن ينتصر كلاهما! »
وذات ليلة وجدوا الملكة ميتة بجوار الرُّقعة الخشبية، وقد احتضنت القطعة
التي تمثل الملك المهزوم.
شيَّعت المملكة ملكتها إلى قبرها في حزن ولوعة.
كانت أخبار أيامها الأخيرة قد وصلت إلى كل أبناء المملكة، فرثوا لحالها
وتألموا لألمها كثيرًا.
الأمر الأشد حزنًا أن «جيف » كان يشعر في قرارة نفسه أنه مُدان في عيون الكثيرين بقتل «تالند » أخيه، كان يؤلمه كثيرًا أن يكون في نظر البعض سفَّاحًا أنانيًّا ليس لديه عزيز ولا غال.
كان وزيره، وقد كان رجلا حكيما من أصدقاء أبيه الراحل، يتألم من رؤية
«جيف » وهو يُعذَّب، فاقترح عليه أمرًا:
وهو أن توضع الرُّقعة الخشبية بقطعها في أكبر ميادين المملكة، ليقف أمامها عامة الشعب، كبيرهم وصغيرهم رجالهم ونساؤهم، حكماؤهم وعامَّتَهم، ليفكِّر كلٌّ منهم في إجابة السؤال المهم: كيف كان يمكن إنقاذ «تالند ؟»
وبالفعل وجد «جيف » في هذه الفكرة مهربًا من إحساسه العميق بأنه مُدان
ومسؤول عن مقتل أخيه.
وكان أن صارت تلك الرُّقعة بقطعها مثار حديث الناس بكامل طوائفهم
وخصوصًا الأذكياء منهم، والذين وجدوا فيها تحديًا حقيقيًّا
لمهاراتهم و عبقريتهم.
وانتشرت في أسواق المملكة مجسَّمات تُشبه الرقعة
وأدخلوا عليها بعض التعديل، وأيضًا بعض القوانين التي يجب ألا تُخالَف لمن قرَّر أن يخوض التحدي.
ومع مرور الوقت، تحوَّلت هذه المأساة إلى لعبة ترفيهية للأذكياء
تُسمَّى الشطرنج.
الموضوع منقول من كتاب
الحياة رقعة شطرنج
للأستاذ كريم الشاذلي